السياسة الثقافية في المغرب أية آفاق؟

السياسة الثقافية في المغرب أية آفاق؟

إن السياسة الثقافية كما يتم فهمها لدى المختصين في هذا المجال، لم تعد مقتصرة على الخطوط العريضة التي يضعها رجل السياسة للشأن الثقافي لكي لا ينفلت من دائرة تحكمه، فهذا تصور يحد من قيمتها ويحولها إلى أداة مسخرة لأهداف مخالفة لطبيعتها، بل هي تشمل كل ما له علاقة بمضامين الثقافة وصناعتها ممثلة في الطباعة والكتاب والنشر وحقوق التأليف والملكية الفكرية والقوانين المنظمة للمشهد السمعي البصري، وطرق تدبير الوضع اللغوي وتدبير قطاع ثقافة الطفل والشباب والمرأة والمتاحف ودور السينما والمسرح وغيره.او الحديث عن السياسة الثقافية في المغرب اليوم ينبع من الأهمية القصوى التي أصبحت تحظى بها الثقافة بالنسبة لمختلف الدول؛ ومرد ذلك هو التغير الفكري والسياسي الذي عرفه العالم في السنوات الأخيرة، والذي انعكس على الواقع وعلى الخطاب الإعلامي والفلسفي الذي عمل على تغيير التراتبية القديمة التي كانت سائدة في سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، والتي كانت تولي الثقافة درجة أقل من تلك التي توليها للأبعاد الأخرى المتمثلة فيما هو اجتماعي واقتصادي.

ويكفي إلقاء نظرة على الشعارات التي أصبحت ترفع اليوم للتأكد من عمق التغيير الذي حصل في تعاطي الفاعلين مع هذا البعد الذي تولد عنه  حقل دلالي يزخر بمصطلحات عدة، على غرار حوار الثقافات، الغزو الثقافي، العولمة الثقافية، التخطيط الثقافي، التعدد الثقافي...وغيرها كثير، وهي راهنا موظفة بكثافة في الإعلام وفي الإنتاجات الفكرية المعاصرة، ومعتمدة في سياسات الدول تجاه بعضها بعض، وهذا وحده يبين مرة أخرى الأهمية التي أصبحت للثقافة و للتناول الإشكالي لمختلف قضاياها.

و“الاستثناء الثقافي“ الذي اعتمدته المجموعة الأوروبية في مواجهة المنظمات الاقتصادية العالمية، و الذي يرفض التعامل مع الثقافة بوصفها مجرد بضاعة أو استثمار الهدف منه الربح الخالص، يكشف عن وعي هذه الدول بمدى حساسية هذا القطاع و بضرورة عدم إخضاعه للاتفاقيات الاقتصادية والتعامل معه من خلال سياسة محددة تديره وتخطط له بشكل يراعي أهدافها الوطنية ولا يسمح لثقافة بأن تكتسح مجال ثقافة أخرى.

انطلاقا من هذه الزاوية ووعيا بوزن الثقافة في تحديد مسارات الأمم والشعوب وفعلها فيما هو اقتصادي واجتماعي وسياسي، كانت الثقافة فيما مضى، واليوم أصبحت بشكل أكبر، موضوعا للتخطيط المستقبلي الذي يراعي الأولويات والتوازنات، ويرمي إلى تحقيق أهداف بعينها لها علاقة بحفظ النسيج الاجتماعي وضمان حضور وإشعاع هذه الدولة أو تلك على المستوى العالمي، والانفلات من الهيمنة التي تحاول ممارستها الثقافات التي تقف خلفها دول قوية. وهنا تُطرح السياسة الثقافية التي تتبناها المجموعة الأوروبية بوصفها نموذجا على ذلك، إذ تقوم على خطة متكاملة بين دولها متمثلة في تشجيع تطوير صناعة سمعية بصرية خاصة بها، وبناء تكتلات لغوية أوروبية قوية وتنمية المعارف اللغوية أوروبيا، والتركيز على المشترك الأوروبي وإغنائه؛ كالمشروع المتعلق بالدستور الأوروبي الموحد الذي يتحدث عن ثقافة أوروبية، و التاريخ الموحد، والقيم الموحدة...وغيرها من القواسم المشتركة الأخرى، التي أسهمت في نزع الصفة الجغرافية عن أوروبا  وحولتها إلى فكر ونمط في العيش.

لقد أكد أكثر من باحث أنه منذ أوائل القرن الماضي، كان يسيطر على المغرب التصور التقليدي للتخطيط الثقافي إذ كانت تعطى أولوية للسياسي على  الثقافي، ويرجع ذلك إلى أن النخبة الوطنية المثقفة والمناخ الذي تكونت فيه، تحكمت فيه السياسة بشكل مطلق، مما جعل قضيتها الأولى والأخيرة قضية سياسية، وقد مر المغرب بظروف تاريخية أخرى جعلت من الصعب على الدولة وعلى المعارضة الخروج من هذه التراتبية أي أولوية السياسة على الثقافة، لكن اليوم ومع الانقلاب الذي عرفه هذا المجال وإصرار العولمة على فتح كل الأسواق في وجه المنافسة بما فيها الأسواق الثقافية، لم يعد أمام المغرب إلا التفكير بشكل جدي في هذه المسألة والتخطيط لها بدقة.

 وهذا بالفعل ما بدأ يظهر واضحا في السنوات الأخيرة حيث طرحت قضية التعدد الثقافي وقدمت مقترحات عملية لتدبيرها، كما حظيت مسألة لغات المغرب بأهمية خاصة، و عولج ملف الشأن الديني بطريقة مخالفة لما كان عليه الشأن سابقا، وأعيد النظر في الكثير من مضامين المقررات الدراسية...فهل هذه العناصر وغيرها تسمح لنا بالحديث عن سياسة ثقافية في المغرب واضحة المعالم؟ ثم ما العلاقة التي تقيمها السياسة اليوم مع الثقافة هل هي علاقة تبعية، أم توجيه؟ وأي دور تضطلع به الدولة في رسم خطوط هذه السياسة وما هي نسبة مشاركة هيئات المجتمع المدني والأحزاب في تحديد معالمها؟ كيف يتم التخطيط للتعامل مع الثقافات الأخرى خاصة الثقافة الفرنكوفونية التي أصبحت تستحوذ على جانب واسع من فضاء الثقافة الوطنية؟ ما هي المضامين التي يجب إعطاؤها لمفهوم التعدد الثقافي الذي أصبح عنوان مرحلة بكاملها ليكون منسجما مع الواقع والتاريخ المغربي؟ وأخيرا ما هي العناصر التي يجب مراعاتها في هذه السياسة لتكون الثقافة المغربية منفتحة على محيطها العربي والعالمي ولتمد معه جسور التلاقح وتساهم في تحقيق التنمية المستدامة وتنشئ لدى المواطن المغربي الوعي والحس النقديين اللذين يمكنانه من إقامة علاقة تفاعلية مع الثقافات الأخرى بحيث تصبح ثقافتنا المغربية ثقافة مبدعة، تعطي بقدر ما تأخذ وتؤثر بقدر ما تتأثر وتفعل بقدر ما تنفعل وتغير بقدر ما تتغير؟

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :