اشكالية الهوية الثقافية

اشكالية الهوية الثقافية

  تطرح مسألة الهوية أسئلة جوهرية بالنظر إلى تنامي توجهين فكريين رئيسيين يبدوان متعارضين إلى درجة بعيدة. هناك، من جهة، الانبعاث العام للأصوليات الدينية والعرقية التي تتبنى تصورات نكوصية للهوية، تقوم على العقيدة أو العرق، وتنظر إليها بوصفه حقيقة مطلقة، ومتعالية، وأنها هي ما يشكل ماهية الإنسان. وهناك من جهة ثانية الموجة الصاعدة لثقافة الحداثة، التي تنطلق من أن سؤال الهوية أصبح متجاوزا، بالتوازي مع إفلاس الميتافيزياء، وسقوط المعنى، وأن الهوية لا تعدو أن تكون مجموعة من الإسقاطات الوهمية التي يضفيها الفرد على نفسه. وهو ما يعطي الأولوية في انتماء الفرد للعام الإنساني على الخاص المحلي، ويؤدي إلى تنسيب مسألة الانتماء العرقي أو الديني.

 

رغم التعارض الكبير الذي يبدو لأول وهلة، بين هذين الموقفين، فإن العلاقة بينهما لا تخلو من تقاطعات. إن جانبا واسعا من الخطاب الهوياتي، حتى في تعبيراته الأكثر محافظة، يتم تصريفه باسم مقولة الحقوق الثقافية، التي تنهل من مرجعيات الحداثة، ومن الثقافة الديمقراطية، والمواثيق الدولية المعاصرة. كما أن نفي وجود "هوية" بمعناها الثابت والمتعالي لم يمنع الثقافة الديمقراطية من أن تفرد الكثير من أدبياتها للحقوق الثقافية. نحن إذن حيال مساحة تقاطع مشتركة بين هذين الموقفين، وإذا كانت وجود هذه المساحة يدل على شيء، فهو إنما يدل على أن القضية لا يمكن أن تحسم في أحد الاتجاهين بمعزل عن الآخر؛ فالهوية تخضع لصيرورة زمنية تجعلها تتجاوز نفسها باستمرار دون أن تفقد بعض عناصرها الأساسية، فهي تزاوج في كل لحظة بين الاستمرارية والقطيعة، وهو ما يجعلنا نطرح السؤال: ما هي العناصر التي تحافظ عليها الذات في صيرورتها، والتي تبقيها هي هي رغم التغير الذي يطرأ في الزمان؟ هل هي عناصر مادية أو رمزية؟ فطرية أو مكتسبة؟ ذاتية أو موضوعية؟ وما هي العوامل التي تحكم تعالق هذه العناصر أو انفكاكها عن بعضها البعض؟

  من كل هذا نستنتج إن تسليط الضوء على هذه المسألة يتطلب التركيز على المؤشرات التي تسمح بالتمييز بين الخطاب الهوياتي الانغلاقي أو النكوصي، وذلك الذي ينسجم مع مقتضيات الحداثة، ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. بين ذلك الذي يميز بين الفئات الاجتماعية على أساس العرق أو الجنس أو باسم امتلاك حقيقة ما، وبين مفهوم الهوية باعتباره خاصية رمزية تأسست وامتدت ضمن التاريخ أو العلاقات الاجتماعية أو الثقافية. وبناء على ذلك؛ ما هي التعبيرات أو التطلعات الثقافية التي تؤسس لمفهوم حداثي للهوية، لا يبترنا من سياقنا الحضاري والتاريخي، وفي الوقت نفسه ينسجم مع المرجعيات الإنسانية والكونية ومع الثقافة الديمقراطية؟ ما هي احتياجاتنا اليوم كمغاربة؟ كيف يمكننا أن نزكي ونغني تعددنا الثقافي وندفع به وفق منطق التكامل الإيجابي والبناء؟ كيف ندبر العلاقة الثقافية مع الخارج؟ وكيف نوازن بين مطلب تطوير ثقافتنا المحلية، وحاجتنا إلى الانفتاح على الثقافة الكونية حتى لا يكون أحدهما على حساب الآخر؟

 

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :